دراسات إسلامية

 

 

من ماض مجيد إلى حاضر عظيم

 

بقلم:  تنوير خالد القاسمي السيتامرهوي

 

 

 

 

     الإسلام هو الذي نفخ في العرب روح الأخلاق والحضارة قبل جميع الأديان، ثمّ تلقى العالمُ هذه الدروس من العرب؛ لأنّ مهود الحضارة والثقافة في الهند ورومة وفارس أصبحت مسرح الفوضى والاختلال وكانت تعاني التدهور الخلقي والاجتماعي؛ فكان العالم تسيطر عليه روحُ الجاهليّة، ويتعفّن ضميره، وتأسن روحه، وتختلّ فيه القيم والمقاييس، ويسوده الظلمُ والعبوديّة، وتجتاحه موجة من الترف الفاجر والحرمان التاعس، وتغشاه غاشية من الكفر والضلال والظلام(1).

     ولكنّ الإسلام هو الذي قام بدور بارز في حياة البشريّة في تخليص روح البشر من الوهم والخرافة، ومن العبوديّة والرق، ومن الفساد والتعفّن، ومن القذارة والانحلال. وأنقذ المجتمع الإنساني من الظلم والطغيان، ومن التفكك والانهيار. وبنى العالمَ على أسس حديدة من العفّة والنظافة والإيجابيّة، والبناء والحريّة والتجدّد. وهدى إلى العمل الدائب لتنمية الحياة وترقية الحياة. وأعطى كلَّ ذي حقّ حقه.

     وهذا التقدّم الإسلامي لم يقتصر على العلوم الأخلاقيّة والثقافية؛ بل استمرّ إلى الفنون الحديثة، والعلوم الطبيعيّة والهندسيّة وما إلى ذلك من الحديث الأحدث؛ فكان العالم الإسلامي جامعات وكليات، وكان الطلاب يرتحلون إلى هذه المناهل العلميّة من كافة بلدان العالم(2)؛ لأنّ المسلمين كانوا أئمّةً بلا نزاع في علوم الحساب، والفلسفة، والهيئة والجغرافيّة، كما كانوا قدوةً في صناعة السفن والأسطولات، والمدافع الضخمة، بالإضافة إلى أنّهم صاروا المثل الأوّل الكامل في البحارة والملاحة؛ فنرى:

     «ابن مسكويه» (942 1030م) في الكيمياء(3).

     و«ابن الهيثم» (965-1039م) في الهيئة(4).

     و«البيروني» (983-1048م) في الجغرافية(5).

     و«ابن سينا» (980-1037م) في الطب(6).

     و«الزهراوي» (926-1018م) في التشريح(7).

     و«ابن باجة» (1138م) في الفلسفة والهندسة(8).

     و«ابن خلدون» (1332-1406م) في التاريخ(9).

     أئمّةً لاتتمّ هذه العلوم والفنون إلا بذكرهم. كما يُردُّ الفضلُ في إيجاد الأدوات التكنولوجية العلمية المختلفة إلى المسلمين؛ فالساعة من مخترعات المسلمين(10)، والصواريخ الجديدة من مخترعات «فتح علي»المدعوّ بـ«تيبو سلطان» فنصبت «NASA» تمثاله في المقرّ الرئيس تقديرًا واعترافًا(11)، وأوّل من أنشأ واستخدم المنظارَ (تلسكوب) هو العالم المسلم الشيخ أبوالحسن المصري(12).

     إنّها أمثلة ونماذج سُردت وراءها فهرس طويل؛ ولكن كما نعلم أن أوربا تتعود بأن ترفض خدمات المسلمين، وتنصب على جميع الرقي قديمًا وجديدًا لافتة أسماء الغرب، وتؤكّد أنّ كلاًّ من التقدم والتطور مرهون بالغرب، وجعلوا موجدًا، من شجّع صناعة المسلمين واختراعاتهم قليلاً، وسلكوا مسلك تغيير أسماء العلماء المسلمين؛ حتى تظهر الأسماء المتغيّرة أسماء الغرب، مثلاً:

     جابر بن حبان = غيبر، وابن ماجة = أويم باكي، وابن داؤد= اوين دينته، والفارابي= فارابيوس، والفرغاني = فرغانس، والخليل = الكلي، وابن البتّاني = باتاكينوس(13)، وابن الهيثم= AL HAZEN، والخوارزمي = AL GORISM، وابن زهر = AVENEZOAR، وابن رشد = AVENROES، وأبو القاسم = ALBUCASIS(14).

     فهذه المؤامرات المتواصلة أرخت ستارَ الكذبِ وإفسادِ التاريخ على خدمات المسلمين، وجعلت المسلمين معوزين في العلوم العصريّة المختلفة، ممّا يُظنّ أنّهم صفر الأيدي في المجالات العلميّة والتكنولوجية قديماً وجديدًا. إضافةً إلى أنّ كثيرًا من الناس يشهدون للمسلمين بالفضل قديمًا فحسب؛ فهم يقولون إنّ المسلمين قاموا بالأدوار الجليلة في الماضي؛ ولكنّ الآن هم مفلسون، ليس لهم خلّ ولاتمر في المجالات العلميّة والتكنالوجيّة؛ فلا لهم في الطبّ وزن؛ ولا في الهندسة مقام؛ ولا في التكنولوجيا مكانة... كما أنّهم مُجَرَّدون عن الأخلاق والثقافة، ومعوزون في التمدّن والحضارة.

العامل القوي الرئيس:

     ولكنّ البحث في ما تلاقيه الأمة المسلمة (من الاضمحلال والتخلف، والهبوط والتردي) يكشف القناع عن صدق مدهش بأنّ المسلمين (الذين لايبالون التعاليم الإسلامية؛ ولا يحبّون بلادهم حبًّا كاملاً؛ ولا يُشغفون بأراضيهم المتوارثة؛ وبيئاتهم التي ربّت آباءهم؛ وينحرفون عن سيرتهم الأولى) يتعرّضون للحرص في الأموال والثروات، وللشراهة في الماديّة، وأصبحوا عباد البطون الشخصيّة، وتحسين الحياة الماديّة، ولا يعملون على تقدم بلادهم؛ بل هم يجنّدون كلّ طاقاتهم ومؤهلاتهم لتكثير الأموال الشخصيّة ولا يحفلون بأنّ بلادهم هي التي أجدر بخدماتهم، وأحق بمواهبهم؛ لا الغرب التي ترمي لهم الكسرة من الخبز البائت والعظم اليابس، فيفرحون بها وترضون عنها؛ ولكنّ هذا الطمع يجني عليهم البعدَ عن الأصدقاء، والسلب حبّ الأقرباء، والنزع عنهم ودّ الزملاء، والتفويت عليهم فرصة الإيفاء لحقّ البلاد ومن فيهم. إنّ الغرب تمنحهم خيرًا، وتحفل حياتهم ترفةً ومتعةً؛ ولكنّ بلادهم تعود مختلفةً ومترديةً. ولا شك في أن تحصل لهم المنازل الشامخة، وتجري بهم السيارات الفاخرة، وتطير بهم الطائرات العالية؛ ولكن ذلك يفرّق حطام العيدان من عشش قومهم، ويصعب المشي على أقدامهم، ويدفع بلادهم إلى مزيد من أوحال الاستنزاف، إنّ الغرب تدرّ عليهم شيئًا من الخير؛ ولكن يأخذ من بلادهم الخسرانُ الماديّ والفكريّ كلّ مأخذ.

     العقول الفعّالة والأذهان الذكية بدأت تهاجر إلى المغرب منذ رميها الكسرة لهم، ويجري السباق بينهم للحصول على التأشيرة إلى «أمريكا»وأخواتها من الدول الأوربيّة، وهناك لا بأس أن يسافر إلى البلاد الأجنبية لكسب الخير؛ لأنّ التنعّم والعيشة الراضيّة، من العواطف الطبيعيّة الغريزيّة؛ إلاّ أن العواطف لاتقتصر على ذلك؛ بل تنتهي إلى الطمع في نيل البطاقة الخضراء، والجنسية الأوربيّة؛ حتى لا تبقى علاقة ما بين المهاجرين وبين أوطانهم الأصلية يومًا فيومًا، ويتنحون عن ما وجدوا عليه أباءههم من الحضارة والثقافة، وينأون بجانبهم عن هوياتهم الأصليّة وتقاليدهم الوراثية، وتتحوّل أفكارهم، وتطلعاتهم، فهم يفكّرون بعقول أوربا وأذهانها، فهم يتبعون «أوربا» ويعتنقون وجهات النظر الأوربيّة في مرافق الحياة جميعًا؛ مما أسفر عن تحول أوطانهم الأصلية بما تجمع من التقاليد، والأقدار، والاتجاهات، وتتمثّلُ لهم بلادًا أجنبيّةً، وتواجه أكبرَ الخسائر الماديّة والفكريّة.

     يقول البروفيسور «باكنز» رئيس جامعة كورتل الأمريكيّة: إنّه قد هاجر في الفترة من عام 1949م إلى عام 1961م، 43 ألف مهندس، و 11 ألف طبيب، من البلاد الإسلاميّة إلى «أوربا» وإحصائيّة أخرى أن العلماء الذين هاجروا من يدار الإسلام إلى «أمريكا» من عام 1966م إلى عام 1977م، 109253 عالماً(15).

     وفي تقرير رهيب آخر أنّ عدد الأطباء الجزائريين في «باريس» أكبر من عدد كل الأطباء في الجزائر، وعدد الأطباء الإيرانيين في «نيويورك» أكبر من عدد جميع الأطباء في إيران(16).

     إنّ هذه العقول المهاجرة سبّبت في خسارة ماديّة لبلادها الإسلاميّة في عقد ونصف أكثر من 200 مليار دولار، حسب تقرير لمنظمة العمل العربيّة في المؤتمر الذي عقده وزراء العمل في الدول العربيّة في الإمارات سنة 2003م(17).

     وكشف التقرير الجديد عام 2010م أنّ ٪50 من الطباء العرب، و٪23 من المهندسين، و٪15 من العلماء يهاجرون إلى «الولايات المتحدة» و«كندا» سنويًا، وأنّ ٪54 من الطلاّب العرب الذين يدرسون في الخارج، لايعودون إلى بلادهم بعد استكمال إقامتهم الجامعيّة من المهجر(18).

     وكيف لا تُنهك المجتمعات الإسلاميّة علميًّا ولا تتيه في دائرة التخلف دائماً؟ لأنّ الصغار يحذون حذو الكبار؛ فلا يقنعهم القليلُ ولا يرضون بالدون؛ إلا أن تسمو بهم نفوسُهم إلى تحقيق الأحلام، وبلوغهم الآمال. وتحصيل كل من الشهوات، وفـيركبون السبيل التي يركبها الكبار؛ فلا يعودون إلى بلادهم بعد استكمال دراستهم في الدول الأجنبيّة؛ بل يستوطنون الدولة الأجنبيّة وطنًا لهم.

     فيصرّح الدكتور صلاح الدين سلطان في تقرير: أنّ طلاّب البعثات الدراسية من المصريين يبقى في الخارج ٪70 منهم. أما طلاّب العراق فيبقى في الخارج ٪81،2 من طلاب البعثات الحكوميّة، ومن طلاب «لبنان» ٪90(19).

تمسّ الحاجة إلى المبادرة الموثرة:

     إنّ هذه الإحصات المدهشة المؤلمة تدعو البلاد الإسلاميّة إلى أن تقوم بمبادرة لا قانونية دافعة؛ بل ترغيبية مبشّرة تصدّ الباب على الهجرة التي تؤدي الأمّة الإسلاميّة إلى حالة نزيف عقليّ وفكريّ، وخسران ماليّ وماديّ؛ فيُعطى كلّ ذي حق حقه، ويُشجّع كل من لديه موهبةٌ على موهبته ويُقدّر. وذلك لايدرّ الخير لهم فحسب؛ بل هو الذي تمضي به البلاد الإسلاميّة على سبيلها قدمًا متقدّمةً، وبمثل الدكتور «عبد القدير» والدكتور «عبد الكلام» والسيد «نير أحمد خان»يلمع اسمُ الأمة الإسلاميّة وتعود بالكرامة والمكانة فيما بين العالم، كما ينبغي لأصحاب المؤهلات أن يعدّوا الأمة الإسلامية أحرى وأولى بتضحياتهم، وأن يهبوا مواهبهم من أجل الأمّة المسلمة؛ انطلاقًا من عواطف المحبة والخدمة، في سبيل تطوير البلاد الإسلاميّة وتقدمها وأن لايمدوا أعينهم إلى ما تغري به البلاد الأجنبيّة الأوربيّة من الأموال الكثيرة وتسهيلات كبيرة، وبالتالي ينالون التسهيلات المطلوبة في نفس بلادهم بدون الهجرة إلى الخارج، ويكسبون لأنفسهم خيرًا كثيرًا في بيئاتهم وبلادهم المتوارثة.

*  *  *

الهوامش:

(1)      ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص:45.

(2)      دائرة المعارف الأرديّة: 307/7، المجلس القومي لترويج اللغة الأردية/ دهلي الجديدة.

(3)      المصدر السابق: 28/8.

(4)      المصدر السابق: 15/8.

(5)      المصدر السابق: 66/8.

(6)      المصدر السابق: 14/7.

(7)      المصدر السابق: 10/7.

(8)      المصدر السابق: 16/8.

(9)      المصدر السابق: 19/8.

(10)  صحيفة راستريه سهارا الأردية الصادرة بدهلي الجديدة 16/11/1426هـ = 18/12/2005م.

(11)  المصدر السابق.

(12)  www. Urdu.chauthiduniya.com 10/3/2011م.

(13)  المصدر السابق.

(14)  دائرة المعارف الأردية: 15/8 و 9/7-10/7.

(15)  هامش «الوطنة في غير ديار الإسلام للدكتور صلاح الدين سلطان، ص:30.

(16)  المصدر السابق ص:31.

(17)  www.midle-east-online.com (6/7/1424هـ = 3/9/2003م).

(18)  Ww.cnn Arabic.com (11/11/2010م)

(19)  المواطنة في غير ديار الإسلام، ص:30.

 

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، رمضان – شوال 1434 هـ = يوليو - سبتمبر 2013م ، العدد : 9-10 ، السنة : 37